حاراتنا القديمة وهويتنا المعمارية

حاراتنا القديمة وهويتنا المعمارية

http://main.omandaily.om/?p=139389

بقلم: محمد الحضرمي

يراودني حلم زاهٍ، كلما مررت على حارة البلاد الأثرية بولاية منح، حيث تتهيأ ومنذ سنوات لاستبدال ثوبها الطيني القديم بثوب أكثر نضارة وإشراقة، وترميمها حاليا بذات المواد التي استخدمها المعماريون الأوائل؛ الطين المتماسك، والتسقيف بالأخشاب، والبقاء على المكونات المعمارية؛ المداخل وعلو الغرف، والأوتاد والآبار، وأحواض السباحة والاغتسال والحجرات الخاصة بحفظ الطعام والحبوب وغيرها، فهي بحق حارة متميزة بتكوينها المعماري، لتبدو أشبه بمدينة أثرية، تتكامل فيها احتياجات الناس، كالمساجد ومدارس القرآن والمجالس العامة، والأزقة الخاصة ببعض الصناعات الحرفية، ومما له علاقة بجماليات هذه الحارة التحفة، والتي تعمل وزارة التراث والثقافة ومنذ سنوات على ترميمها، فظهرت الآن بعد الترميم بجمال يجمع بين أبهة الماضي وأناقة الحاضر، وقد قدِّر لها أن تعيش عمرا جديدا، بعد أن ظلت عقودا من السنين مجرد خراب وبيوت متداعية أو آيلة للسقوط، لتصبح اليوم معلما أثريا سيحقق الكثير من المكاسب الثقافية.
أما الحلم الزاهي الذي يراودني كلما زرتها، فهو أن أراها نابضة بالحياة، وليست مجرد بيوت مرممة، الترميم وحده لا يكفي لإبقاء المكان عامرا، البيوت لا تعمر إلا بالسُّكنى، فأن تعود لها الحياة من جديد، وأن يسكنها الناس، أو أن يترددون عليها من بقاع شتى، هو عمارها الحقيقي، فلقد زرت حارات قديمة خارج السلطنة ووجدتها عامرة بالحياة، كالحارة العتيقة في تونس، حيث جامع الزيتونة الشهير، والأسواق القديمة، والبيوت تتلاحم في وحدة بنائية، ولا يوجد فيها بيت غير مسكون، أو غرفة ليست مستخدمة لغرض ما، وهكذا أحلم بعودة الروح لحاراتنا القديمة في مدننا وقرانا العمانية، لأنها مثال على التماسك والتلاحم الاجتماعي بين الناس.
وبعد ترميم حارة البلاد بولاية منح، أو «حجرة البلاد» كما هي تسميته القديمة، وترميم حارات أخرى مماثلة لها في الفخامة والعراقة، كحارة جامع البوسعيد بولاية أدم، وحارة السليف بولاية عبري، يصبح لدينا مدنا قديمة جاهزة للاستخدام، حارات عمانية أثرية بامتياز، تحتفظ بروح العمارة القديمة، التي فرضتها ظروف الحياة، حيث الناس في كل مكان يميلون إلى أن يكونوا أسرة واحدة، مع أنهم من قبائل شتى، وهذا ما كانت عليه حارة البلاد، التي تجمع بين قبائل مختلفة، يعيشون في كنف سورها الشامخ كأسرة واحدة، يعرفون بعضهم البعض أسماء وأشكالا، وكنى وألقابا، يعرفون الحالة الاقتصادية لكل أسرة، وصنعة كل فرد منهم؛ فهذا حداد، وذلك بناء، والآخر مزارع، والآخر معلم، والآخر كاتب، وذلك صفَّار، أو شمَّار، وغيرها من المهن المختلفة، ومع تباين مستواهم المعيشي والثقافي، إلا أنهم سواسية في الأفراح والأتراح، وسواسية في تزاورهم واجتماعهم، وسواسية في صِلاتهم، ومدافن موتاهم.
حلقت في حلمي لأرى عودة الحياة إلى حاراتنا القديمة، كما كانت في زمن الأجداد، بأسواقها ومكتباتها ومساجدها، لتكتظ كما كانت قديما بالناس البسطاء، بأحلامهم وآمالهم، وببساطتهم وتواضعهم الجم، وبأناقتهم في توزيع مرافق البيت، واعتنائهم بالإضاءة الداخلية، من خلال الفتحات العلوية في الأسقف والجدران، حتى يتسلل ضوء الشمس أو القمر إلى أكثر مرافق البيت، ومعه يتسلل النسيم البارد، القادم من ضواحي النخيل.
حلق بي الحلم أكثر، لأرى حارات أخرى أثرية في مدن وولايات عمانية لم ترمم بعد، متمنيا بقاء مشاريع الترميم التي تشرف عليها وتنفذها مشكورة وزارة التراث والثقافة، لتشمل الحارات والأسوار والبوابات والقلاع والحصون والأبراج وغيرها، في كل أنحاء السلطنة، فهي بلا شك ثروة وطنية لا تقدر بثمن، باعتبارها إحدى الأنماط المعمارية التي تصلنا بالماضي العريق، وبلا شك فإن مثل هذه المشاريع تستنزف أموالا طائلة من ميزانية الدولة، ولكن الحفاظ على هويتنا المعمارية وتراثنا، أغلى من كل شيء.