تاريخ جبل أبو صروج

الوقوف عند سفح جبل «أبو سروج» يذكر المتأمل بالقناديل المضيئة في غابر الأزمان

مدافن منح الأثرية.. حضارة الألف الثالث قبل الميلاد –
نزوى–محمد الحضرمي –
عند مدخل ولاية منح من جهة الغرب، تلوح من بعيد قمم رخامية لجبل «أبو سروج»، وهو الجبل الوحيد المتاخم للولاية من جهة الشمال، الجبل الذي يبدو أشبه بسور رخامي أنيق، وبمجرد الاقتراب منه تبدو ثمة مدافن تظهر في السفح الحجري، كأعشاش صغيرة تتناثر في السفح، وعددها بالمئات، لكن الاقتراب منها أكثر يكشف المشهد عن مدينة أثرية بأبراج قديمة، لم يكن الناس يعرفون عن عراقتها، وأهميتها أي شيء، فهي منطقة جبلية تبدأ من مدخل الولاية، وتنتهي عند قرية الفيقين، إحدى قرى ولاية منح، بمسافة تصل إلى أكثر من عشرة كيلومترات، أما الجبل فيمتد إلى البعيد، موغلا بسلسلته إلى جهة الشرق.

من ناحية أخرى قامت وزارة التراث والثقافة خلال السنوات الماضية بإجراء حفريات في أحد تلك المدافن بجبل «أبو سروج» المتاخم لقرية الفيقين، وسميت الحفريات باسمها، عُثر فيها على أدوات فخارية، وقطع من الحجر الصابوني، ومجموعة من الخرزات وأدوات نحاسية، تتنوع بين رؤوس للرماح والسهام، وهو الاكتشاف الذي دعا الباحثون الآثريون التأكيد على أن الفترة التي يغطيها «موقع الفيقين»، تمتد من الألف الثالث قبل الميلاد، وحتى الألف الأول قبل الميلاد، وتميزت غرف الدفن فيها بشكلها المستطيل، وبعض المدافن ذات شكل دائري مقبب.
هذا الاكتشاف جاء بعد نبش عدد من المدافن، مع أن الجبل زاخر بمئات منها التي تعود إلى تلك الفترة، ربطها البعض بآثار تعود إلى زمن القائد مالك بن فهم الأزدي، والذي نزل منح بعد مجيئه من مدينة «قلهات» بصور، ويقال: إنه هو أول من أسس مدينة منح القديمة، وفيها حفر فلجا ما تزال آثاره باقية إلى اليوم، كما توجد آثار أخرى تعرف بمرابط خيول مالك، ولكنها مجرد نقولات شفهية، وثَّق بعضها الشيخ عبدالله بن حميد السالمي في كتابه: «تحفة الأعيان»، تناول في الفصول الأولى من كتابه القيم تاريخ عمان القديم، ساردا تفاصيل قصة مالك بن فهم الأزدي، ونزوله منح، ثم حربه الضروس مع الفرس في موقع سلوت الأثري، وحتى مقتله خطأ على يد أحد أبنائه، وهي قصة مشبعة بسرد أخاذ، يختلط فيها النثر بالشعر، مع تصعيد أدبي عذب، يشعر القارئ معه بتنامي القصة تصاعديا، وانتهاءها بالمشهد المأساوي المحزن.
كما إن الوقوف عند سفح جبل «أبو سروج» في ولاية منح، يذكر المتأمل بالقناديل المضيئة في غابر الأزمان، ولعل التسمية جاءت من فكرة أن تلك الأبراج أشبه بالسُّرْج التي تضيء في الليل، حيث يتصاعد الخيال الشعري للإنسان، ليرسم لوحة جبلية تلتمع بالقناديل في الليالي المعتمة، ولعل الناس كانوا يستوطنون سفح الجبل قبل عهود بائدة، كل هذا وارد ومحتمل، والآثار خير شاهد على حضارة عمانية عريقة، شاءت لها الأقدار أن تنشأ في هذا السفح، ثم امحت بمرور الأيام، ولم يبق منها إلا المدافن المتناثرة، تماسك بعضها، وبعضها الآخر تعرض لاندثار، بسبب نهب الناس تلك الحجارة، فهي تصلح كأسس للمنازل والإنشاءات العمرانية، ومع ما ضاع فما تبقى منها الكثير، يصل عددها بالمئات، يكفي لتقديم دراسات وأطروحات علمية حولها، تنتظر من جهات الاختصاص أن تعتني بها أكثر، وتقدم إحصائية ودراسة مفصلة عنها.
وفي جانب من هذه المدينة الأثرية، قامت وزارة التراث والثقافة ممثلة بدائرة التنقيب والدراسات الأثرية، بعمل سياج حديدي متواضع، نصبت في جوانبه لوائح تحذيرية، تنبه الزائر والواقف على المكان أن الموقع أثري، وأن العبث بمحتوياته محظور، يعرض للمخالفة والعقوبة الواردة بقانون حماية التراث القومي، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 6/80. ولكن إلى أي مدى التزم العابثون بما ورد في هذه اللوائح التحذيرية؟، فهي لا تبدو بالنسبة لهم أكثر من فزاعة و«خيالة مآتة» مريض، تضحك عليه الطيور، ولم يعد يخيفها في شيء، لذلك تقطعت أسلاك السياج الحديدي، واستراحت أجزاء منه في الأرض، وهنا تكمن الخطورة، حيث إن إرثاً حضارياً عريقاً، بمثابة ذاكرة للمكان الموغل في القدم، معرض للضياع بسبب الإهمال.
وأكثر ما يهدد هذه المستوطنة الأثرية بالضياع، هو اقتراب الزحف العمراني منها، حيث تم تخطيطها إسكانيا، وتهيئة الأرض الملاصقة لها، لتكون مساحات سكنية وتجارية وصناعية، بدأت هذه الأيام، تلوح بمنازلها الحديثة وعماراتها ومصانعها الصغيرة، التي بلا شك أقيم بعضها في مواقع تنتمي إلى تلك الحضارة البعيدة.
وليس بعيداً عن هذا الموقع، ثمة مستوطنة أخرى تلوح قبابها في جبال سهلية متاخمة لقرية عز بولاية منح من جهة الجنوب، هناك تلوح مدافن تبشر بمستقبل أثري واعد، وهي مدافن قريبة الشبه بمدافن جبل أبو سروج، ولعل ما يجمعهما هو الامتداد التاريخي الواحد، وهي حضارة الألف الثالث قبل الميلاد، التي تتناثر في سفوح كثيرة بمحافظة الداخلية، جميعها تنتمي إلى ذات المرحلة أو قريبا منها، حيث تنصب المدافن البرجية والشبهة بخلايا النحل، ليكون الموتى قريبين من يد السماء الحانية، تبشرهم بحياة أخرى جديدة، وغيب لا يعرف مداه ومنتهاه.
مدافن عز تتناثر في الجبل الرملي كقبور صغيرة، بالكاد تبرز حجارتها في القمم، فيما توجد أسس لعمران قديم، لعلها كانت قواعد لأبراج أو حصون أو بيوت، ولا أحد يجزم بالتاريخ الحقيقي لهذه المستوطنة، ما لم تدرس حفريات المدافن، فيستخرج منها ما يؤكد على عرقتها وانتماءها لذلك العهد البائد من عمر الزمن.
إن مدافن جبل أبو سروج، وكذلك مدافن «جبل عز» بولاية منح، شواهد حجرية على حضارة موغلة في القدم، حضارة تنتمي إلى الماضي العماني السحيق، والذي يمتد إلى ما قبل فجر التاريخ، ومنذ تلك العهود البائدة، بقيت هذه الشواهد الحجرية تتحدى عوامل تعرية الزمن، المدافن لم تندثر، والحجارة متماسكة، والسفح احتفظ بها كحضن رؤوم، والجبال الشاهقة تلوح في الأفق بيارق من ذهب ورخام.